24‏/08‏/2015

كَلَامُ اللهِ, وَطُرُقُ الْوَحيِ ج3 ... د. ناصر السخني



   بَيَّنْتَ فِي الجُزءِ الثَّانِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَلَّمَ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوْسَى وَعِيْسَى ومُحَمَّدَاً – عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيهمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – كَلَامَاً مُبَاشرَاً فِي الدُّنْيَا عَلَى الأَرضِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ؛ فَكَيْفَ كَلَّمَ مَنْ ذَكرتُهُم فِي الْبِدَايَةِ: نُوحَاً, وَزكَريَّا وَيَحيَى مِنَ الأنْبِيَاءِ؟!



   أَقُوْلُ: إنَّ كلامَ اللهِ لَيْسَ شَكْلاً وَاحِداً؛ بَلْ بَيَّنَ اللهُ لَنا طُرُقَ الْوَحيِ الرَّئِيْسَةِ وَهيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً, أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ, أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا؛ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.([1]) (هَذِهِ مَقَامَاتُ الْوَحْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (.([2])

1- {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}. بِالإلْهَامِ([3]), أَوْ رُؤْيَا مَنَام([4]), أَوْ النَّفْثِ بِالرَّوْعِ([5]), وَغَيرهِ.
2- {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. أَيْ يُسْمِعُهُ كَلَامَهُ وَلَا يَرَاهُ, بِدُونِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ، وَلَا تُرجُمَانٌ، كَلاماً مُبَاشِراً؛ كَمَا كَلَّمَ اللهُ مُوسَى وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنيَا - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيهمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ –  وَكَمَا كَلَّمَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فِي السَّمَاء لَيلةِ الإسرَاءِ والمِعرَاجِ([6]), وَفِي الدُّنيَا عَلَى الأَرضِ([7]), وَكَمَا كَلَّمَ عبدَ اللَّهِ بْن حَرَامٍ([8]) وَلَكِنْ بَعدَ المَوتِ.
    وَحِينَ سَأَلَ مُوسَى الرُّؤْيَة بَعْد التَّكْلِيم حُجِبَتْ عَنْهُ؛ {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}.([9]) فَمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَمْ يَستَطِع فِي الدُّنيَا أَنْ يَحتَمِلَ رُؤيةَ اللهِ: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}.([10]) ، لأَنَّ الْجِسْمَ الَّذِي خُلِق لِيَعيشَ فِي الدُّنيَا غَيْر الَّذِي يَكُونُ فِي الآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُؤمِنِينَ يَرَونَ اللهَ يَومَ الْقِيَامَةِ، كَمَا دَلّتْ الأَدِلَّةُ الصَّحِيْحَةُ([11])، وَلَكِنَّهُم لَا يَرَونَهُ فِي الدُّنيَا. 

    وَسَبَبُ نُزُولِ الآيةِ: (ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ؟! إِنْ كُنْتَ نَبِيّاً كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مُوسَى لَمْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ(.([12])

3- {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}. (أَوْ يُرْسِلُ اللَّهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ رَسُولاً إِمَّا جِبْرَائِيلَ، وَإِمَّا غَيْرَهُ. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} يَقُولُ: فَيُوحِي ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ مَا يَشَاءُ، يَعْنِي: مَا يَشَاءُ رَبُّهُ أَنْ يُوحِيَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ(.([13])

* الخُلَاصَةُ الثالثة:
طُرُقَ الْوَحيِ الرَّئِيْسَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً, أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ, أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا؛ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.([14])


** وَلَكنَّ هَلِ الْوَحيُ مَنْفِيٌّ أَوْ مُنْقَطِعٌ عَنْ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ؟!: يَتبع الجُزء الرَّابِع......






([1]) سورة الشورى/51.
([2]) انظر تفسير ابن كثير للآية/51 من سورة الشورى.
([3]) الإلهام هو الإصابة بإلقاء أمر في النفس يبعث على الفعل أو الترك. وقيل: أن الإنسان قد يتلقى من الله توجيهاً بطريق خفي . وقيل المحدث هو الملهم بالصواب الذي يلقى على لسانهِ. وفِي الحديث الصحيح: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :إنَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب".
([4]) فِي الحديث الصحيح: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
([5]) فِي الحديث الصحيح: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفساً لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها.....".
([6]) انظر (40) و (41).
([7]) انظر (42) و (43) و (44).
([8]) فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيح أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَابِرِ بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: "مَا كَلَّمَ اللَّه أَحَداً إِلَّا مِنْ وَرَاء حِجَاب؛ وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاك كِفَاحَاً". تم تخريجه سابقاً انظر (45).
([9]) سورة الأعراف/143.
([10]) سورة الأعراف/143.
([11]) انظر الأحاديث (60), (61), (62), (63) في هذا البحث.
([12]) انظر تفسير القرطبي للآية/51 من سورة الشورى. وتفسير البغوي.
([13]) انظر تفسير الطبري للآية/51 من سورة الشورى.
([14]) سورة الشورى/51.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق