بَيَّنْتَ فِي الجُزءِ الثَّانِي أَنَّ اللهَ
تَعَالَى كَلَّمَ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوْسَى وَعِيْسَى ومُحَمَّدَاً – عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيهمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – كَلَامَاً مُبَاشرَاً فِي
الدُّنْيَا عَلَى الأَرضِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ؛ فَكَيْفَ كَلَّمَ مَنْ ذَكرتُهُم
فِي الْبِدَايَةِ: نُوحَاً, وَزكَريَّا وَيَحيَى مِنَ الأنْبِيَاءِ؟!
أَقُوْلُ: إنَّ كلامَ
اللهِ لَيْسَ شَكْلاً وَاحِداً؛ بَلْ بَيَّنَ اللهُ لَنا طُرُقَ الْوَحيِ
الرَّئِيْسَةِ وَهيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً, أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ, أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا؛ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.([1]) (هَذِهِ مَقَامَاتُ
الْوَحْيِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى جَنَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (.([2])
1-
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}.
بِالإلْهَامِ([3]),
أَوْ رُؤْيَا مَنَام([4]),
أَوْ النَّفْثِ بِالرَّوْعِ([5]),
وَغَيرهِ.
2- {أَوْ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ}.
أَيْ يُسْمِعُهُ كَلَامَهُ وَلَا
يَرَاهُ, بِدُونِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ، وَلَا تُرجُمَانٌ، كَلاماً مُبَاشِراً؛ كَمَا
كَلَّمَ اللهُ مُوسَى وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنيَا - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيهمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – وَكَمَا
كَلَّمَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فِي
السَّمَاء لَيلةِ الإسرَاءِ والمِعرَاجِ([6]),
وَفِي الدُّنيَا عَلَى الأَرضِ([7]),
وَكَمَا كَلَّمَ عبدَ اللَّهِ بْن
حَرَامٍ([8])
وَلَكِنْ بَعدَ المَوتِ.
وَحِينَ سَأَلَ مُوسَى الرُّؤْيَة بَعْد
التَّكْلِيم حُجِبَتْ عَنْهُ؛ {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}.([9])
فَمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَمْ يَستَطِع فِي الدُّنيَا أَنْ
يَحتَمِلَ رُؤيةَ اللهِ: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}.([10])
، لأَنَّ الْجِسْمَ الَّذِي خُلِق لِيَعيشَ فِي الدُّنيَا غَيْر الَّذِي يَكُونُ
فِي الآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ
فَإِنَّ الْمُؤمِنِينَ يَرَونَ اللهَ يَومَ الْقِيَامَةِ، كَمَا دَلّتْ
الأَدِلَّةُ الصَّحِيْحَةُ([11])،
وَلَكِنَّهُم لَا يَرَونَهُ فِي الدُّنيَا.
وَسَبَبُ نُزُولِ الآيةِ: (ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ
إِلَيْهِ؟! إِنْ كُنْتَ نَبِيّاً كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ،
فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مُوسَى لَمْ يَنْظُرَ
إِلَيْهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ(.([12])
3-
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}. (أَوْ يُرْسِلُ اللَّهُ مِنْ
مَلَائِكَتِهِ رَسُولاً إِمَّا جِبْرَائِيلَ، وَإِمَّا غَيْرَهُ. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} يَقُولُ: فَيُوحِي
ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ مَا يَشَاءُ،
يَعْنِي: مَا يَشَاءُ رَبُّهُ أَنْ يُوحِيَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ(.([13])
* الخُلَاصَةُ الثالثة:
طُرُقَ الْوَحيِ الرَّئِيْسَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً, أَوْ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ, أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا؛ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ
عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.([14])
** وَلَكنَّ هَلِ الْوَحيُ
مَنْفِيٌّ أَوْ مُنْقَطِعٌ عَنْ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ؟!: يَتبع
الجُزء الرَّابِع......
([3]) الإلهام هو الإصابة بإلقاء أمر في النفس يبعث على الفعل أو الترك. وقيل: أن الإنسان قد يتلقى من الله توجيهاً بطريق خفي .
وقيل المحدث هو الملهم
بالصواب الذي يلقى على لسانهِ. وفِي الحديث الصحيح: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :إنَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه
منهم فإنه عمر بن الخطاب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق