شَرَحتُ فِي
الجُزءِ الثَّالثِ طُرُقَ الوحي, وَصلتُ
إلى: هَلِ الْوَحيُ مَنْفِيٌّ أَوْ مُنْقَطِعٌ عَنْ
غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ؟!
السُّؤالُ: إِذَا كَانَ الْوَحيُ
ثَابِتَاً لِلأَنْبِيَاءِ, وَلَا جِدَالَ فِي ذَلَكَ, فَهَلِ الْوَحيُ مَنْفِيٌّ
أَوْ مُنْقَطِعٌ عَنْ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ؟!
لَا, والدَّلِيْل:
* قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً,
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ, أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا؛ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا
يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.([1])
وَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ وَاضِحَةٌ, لَا الْتِبَاسَ
فِيْهَا, وَهْيَ عَنِ إِمْكَانِةِ أنْ يُكَلِّمَ اللهُ الْبَشَرَ عَامَةٌ,
وَلَيْسَتْ مُختَصَّةً بِالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَلَوْ كَانَتْ خَاصَّةً لَكَانَتْ: (وَمَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ …) بَلْ وَهُنَالِكَ مِن
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَوْحَى إِلَيْهِم اللَّهُ؛ وَمَا كَانُوا مِنَ
الأَنْبِيَاء وَلَا مِنَ الْمُرسَلِين:
1-
الْوَحيُ إِلَى الخِضْرِ11 عَلَيْه
السَّلامُ:
{فَوَجَدَا
عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ
لَدُنَّا عِلْماً}.([2])
{أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ
يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا
مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا
صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.([3])
فَقَوْلُهُ: {وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يَعنِي: الَّذِي فَعَلْتُهُ فِي هَذِهِ
الْمَوَاقِفِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ مِنْ نَفْسِي وَرَأْيِي, وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
أَمرِ اللهِ لِي؛ أَيْ كُنْتُ
مَأْمُورَاً، أُطِيعُ أَمرَ اللهِ.
وَهَذَا مِمَّا يُثْبِتُ الْوَحيِ لَهُ. وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنْزَهُمَا} فَكَيْفَ يَعلَمُ وَيُسْنَدُ الْإِرَادَةَ إِلَى اللَّهِ لَوَ
أَنَّ اللهَ لَمْ يُوحِ لَهُ بِذَلِكَ؟! فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2-
الوحي إِلَى الْحَوَارِيِّينَ عَلَيْهمْ السَّلامُ:
* قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا
بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.([4])
وَهَذَا وَحْيُ اللهِ لَهُمْ؛ وَهُم لَيسُوا بِأنْبِيَاءٍ وَلَا مُرسَلِينَ.
3-
الْوَحيُ إِلَى سَارة زَوْجَةِ ابْرَاهِيْم عَلَيهِمَا
السَّلَامُ:
* قَالَ تَعَالَى:
* {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ
فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ
وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ
وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَاْلُوا
أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.([5])
* {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي
صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.([6])
وَهُنَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى زَوْجَةِ
ابْرَاهِيْم؛ وَهيَ لَيْسَتْ مِنَ الأَنْبِيَاء وَلَا مِنَ الْمُرسَلِين قَطْعَاً.
4-
الْوَحيُ إِلَى أُمِّ مُوسَى عَلَيهِمَا السَّلَامُ:
* قَالَ تَعَالَى:
* {وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ
فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.([7])
* {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ
يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى}.([8]) (أَوْحَيْنَا: أَلْهَمْنَا, وَقِيلَ: أَوْحَى إِلَيْهَا
فِي النَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَوْحَى
إِلَيْهَا كَمَا أَوْحَى إِلَى النَّبِيِّينَ(.([9])
وَهُنَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى أُمِّ مُوسَى؛ وَهيَ
لَيْسَتْ مِنَ الأَنْبِيَاء وَلَا مِنَ الْمُرسَلِين قَطْعَاً.
5-
الْوَحيُ إِلَى أُمِّ عِيْسَى عَلَيهِمَا السَّلَامُ:
* قَالَ تَعَالَى:
* {إِذْ قَالَتِ
الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.([10])
* {فَنَادَاهَا
مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}.([11])
* {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًاً}.([12])
* {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًاً}.([12])
وَهُنَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى أُمِّ عِيْسَى؛
وَهيَ لَيْسَتْ مِنَ الأَنْبِيَاء وَلَا مِنَ الْمُرسَلِين قَطْعَاً.
6-
إنَّ صَحَابةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ سَمِعُوا جِبْرِيلَ عَلَيه السَّلَامُ في حديث
عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "بَيْنَمَا نَحْنُ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ
يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ, شَدِيدُ سَوَادِ
الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ, وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ,
حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى
فَخِذَيْهِ, وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِى عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: الإِسْلاَمُ:
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ
الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ
فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ.
قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ
تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِى عَنِ
السَّاعَةِ. قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. قَالَ:
فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ
تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى
الْبُنْيَانِ. قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِى: يَا
عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ. قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ".([13])
* الخُلَاصَةُ الرَّابِعَةُ:
أَنَّ
اللهَ يُوحِي بِمَا شَاءَ، كَيفَ شَاءَ، مَتَى شَاءَ, لِمَنْ شَاءَ, إِذَا شَاءَ. وَلَيسَ وَحيهُ مُقتصِرَاً عَلَى والْمُرسَلِينَ وَالأنْبِياءِ.
** وَلَكنَّ هَلِ هَلْ يُوحِى اللهُ
إلى غَيرِ الْبَشَرِ؟!: يَتبع الجُزء الخَامِس......
11 لم يرد اسم
الخضر بالقرآن الكريم, ووردت قصته مع موسى عليه السلام في سورة الكهف. وورد الخضر في الحديث
المتفق على صحتهِ: صحيح البخاري (4725), وصحيح مسلم (2380).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق